مجتمع

الوحش الذي يسكنك: عن خوفنا من النجاح

يكره الجميع الفشل، لكن بالنسبة لبعض الناس يمثل الأمر تهديدًا نفسيًّا كبيرًا إلى الحد الذي يجعل خوفهم من الفشل يفوق رغبتهم في النجاح.

future صورة تعبيرية: (الخوف من النجاح)

في عام 1939 وصل جورج دانتزغ، طالب الدكتوراه في جامعة بيركلي، متأخرًا إلى صف الإحصاء، لم يجد أحدًا في الصف فدوَّن مسألتين وجدهما على السبورة معتقدًا أنهما الواجب المنزلي الذي اعتاد أستاذه أن يتركه خلفه بعد كل محاضرة.

عندما تصفَّح دانتزغ المسألتين عند انتهاء يومه الجامعي انتابته الدهشة حيال مستوى الواجب هذه المرة، وكأن أستاذه قفز بمستوى الصعوبة مرة واحدة.

ارتاد دانتزغ المكتبة لعدة أيام متتالية عاكفًا على كتب الإحصاء، متنقلًا بين القوانين من أجل حل المسألة الأولى، ومن ثَم كرر الشيء نفسه مع الأخرى، وفي الأسبوع التالي ساورت دانتزغ الريبة لأن أستاذه لم يسأل عن الواجب بعد، لذا ولدى انتهاء الدرس ذهب إليه وأعطاه الحلول التي توصَّل لها، فوجئ بالأستاذ يسأله: أي واجب؟! ليكتشف دانتزغ أن كلتا المسألتين لم تكونا سوى مثالين على المسائل الإحصائية التي عجز العلماء عن إيجاد حلٍّ لها منذ أينشتاين!

بعد ستة أسابيع نُشر حل المسألة الأولى باسم دانتزغ، بينما استغرقت المسألة الثانية وقتًا أطول حتى تخرج إلى النور؛ إذ كان يعمل عليها عالمٌ آخر في الوقت نفسه، كان قد توصل لحلها بنفس طريقة دانتزغ، لذا حصل دانتزغ على حقوق مؤلف مشارك في ورقة بحثية نُشرت بعد عدة سنوات لحل المسألة الثانية.

لم يكن حل المسألتين أعظم ما قدمه جورج دانتزغ للعالم، فهو يعتبر أبًا مؤسسًا للهندسة الصناعية وبحوث العمليات، كما يعد أول شخص تمكَّن من صياغة نماذج البرمجة الخطية والتحقيق في خصائصها الرياضية.

بعبارة أخرى، لم يكن حل المسألتين هو أكبر إنجازات دانتزغ، لكنه إن صحَّ القول كان أهمها. فكر معي، تُرى لو لم يصل دانتزغ متأخرًا ذاك اليوم هل كان سيكتشف تلك القوة الخفية لديه؟! إن تلك المصادفة العجيبة هي ما أزالت الغبار عن عبقريته وصنعت منه عالمًا لن ينساه الزمان.

الوحش الذي يسكنك

يُعدُّ الخوف من أقدم المشاعر التي تطورت لدى الإنسان البدائي، من المحتمل أنه كان موجودًا منذ الفقاريات الأولى التي ظهرت قبل 500 مليون سنة، وهو من المشاعر التي تتطور لدى الطفل في عامه الأول.

كان لزامًا على الإنسان الأول أن يطوِّر الخوف حتى يتمكن من العيش وسط الأدغال ويتفادي هجوم الحيوانات المفترسة، فيجب أن تعرف الخوف حتى تهاجم أو تهرب. مع تطور الإنسان، طوَّر من آلية الخوف وتأقلم فسرَّع وتيرته ليجعله علامة سريعة على الخطر وكناتج لهذه العملية، هنا نشأ القلق.

لا يوجد إنسان لم يختبر القلق في حياته مطلقًا، لدى أي إنسان مستويات من القلق الطبيعي الذي يمكن أن نقول إنه «مستويات قليلة من الخوف»، وهذا الخوف ضروري ومتأصل في جيناتنا، استخدمه أجدادنا للهروب من الأسد، ونستخدمه نحن لنستذكر لامتحان أو نتقدم لوظيفة.

هذا القلق طبيعي جدًا من أجل تلك الدفعة من الحماسة قبل أداء أي مهمة، هنا يجب ألا تنتابك الدهشة إذا أخبرتك أن الحماسة تُشبه القلق كثيرًا، بل إن المخ لا يستطيع التفريق بين شعوري القلق والحماسة، حتى إنه في بعض حالات المصابين باضطرابات الصدمة يميل الدماغ إلى تلافي المواقف التي تسبب الحماسة معتقدًا أنه قلق.

الخوف هو الشيء الذي يشترك فيه البشر جميعهم. إذا أردت أن تتحكم في شخص ما، فابحث عما يخيفه. ينمو الإنسان وتنمو مخاوفه داخله، في طفولتنا كنا نخشى الوحش الذي يسكن تحت سريرنا، قد نترك الأنوار مضاءة، ننادي والدينا أو ندثر كامل جسدنا بالغطاء لأننا لا نريد أن نواجه هذا الوحش.

كبرنا نحن واختفى الوحش من تحت السرير وصار يسكن في مكان أكثر أمنًا، صار خوفًا في عقولنا، نتجاهله في محطات مختلفة في الحياة، فيتغذى ويصير اضطرابًا نفسيًّا، قد يصبح القلق أو الاكتئاب لأننا لم يخطر لنا أن نواجهه يومًا ونسأله: من أنت أيها الوحش؟

أتيكيفوبيا

هل سمعت من قبل بهذا المصطلح؟

يعني هذا المصطلح الخوف المستمر غير المبرر من الفشل. يكره الجميع الفشل، لكن بالنسبة لبعض الناس يمثل الأمر تهديدًا نفسيًّا كبيرًا إلى الحد الذي يجعل خوفهم من الفشل يفوق رغبتهم في النجاح، الأمر الذي قد يجعلهم لا يحركون ساكنًا.

يترافق مع الفشل مشاعر عدة أهمها خيبة الأمل، الغضب، الإحباط والندم وغيرها، وعلى الرغم من صعوبة تلك المشاعر، فإنها ليست بعد كافية لتجنب المحاولة، لذا عند الحفر عميقًا نجد شعورًا أهم؛ الخزي العميق! 

إذا شعرت بالسوء من أفعالك فهذا شعور بالذنب أو من جهودك، فهذا شعور بالندم، لكن الشعور بالخزي لا هذا ولا ذاك، يجعلنا الشعور بالخزي نشعر بالسوء حيال من نكون!

يخترق الخزي جوهر ذواتنا وهويتنا واحترامنا لأنفسنا مما يجعلنا على أهبة الاستعداد لتقديم أي شيء مقابل ألا نشعر به.

لماذا نخشى الفشل؟

تأتي الصدمات السابقة والتاريخ العائلي على قمة هرم الأسباب المسببة لهذا الخوف. يمكن لمواقف عدة في الطفولة أن تجعل الإنسان يهاب الفشل، إن طفلًا ينمو في بيئة لا تقدم له سوى الانتقاد لأعماله سيخشى الفشل مستقبلًا لتجنب هذا النقد، أو آخر لا يعترف أهله بالنجاح إلا إذا كان مثاليًّا سيتجنب الأمر برمته لأن أي شيء دون المثالية سيكون فشلًا.

ليست البيئة المحيطة فقط هي سبب خشية الفشل، يمكن أن يتعلق الأمر بتفشي أمراض عقلية في العائلة، مثل بعض أنواع من الفوبيا والقلق أو الاكتئاب، فكل هذا يزيد من فرصة الإصابة بهذا الطفيل. 

علامات قد تنبئ بخوفك من الفشل:

يمكن تلخيص العلامات كلها في عبارة: يجعلك الفشل قلقًا.

إذا كان الفشل يجعلك قلقًا بشأن قدرتك على الوصول لمستقبلك، بشأن ما يعتقده الآخرون عنك، من أن يفقد الناس اهتمامهم بك، قلقًا بشأن كفاءتك وذكائك، إحباط المقربين منك.

إذا كنت تميل إلى إخبار الناس سابقًا أنك لا تتوقع النجاح من أجل خفض سقف التوقعات، أو تصاب بأعراض جسمية كالصداع وآلام المعدة في وقت حاسم، أو - وهذا العرض الأهم برأيي - تميل إلى المماطلة والتسويف لإكمال استعداداتك بشكل مناسب. 

إذا كنت تشعر ببعض هذه الأعراض فمن المحتمل أنك تخشى الفشل، وأنك لست وحدك وإنما تشترك مع آخرين - باختلاف الأسباب - في مخاوف تمنعك من الإنجاز.

متلازمة المحتال

هل سبق أن حققت نجاحًا يجده الآخرون من حولك إنجازًا بينما شعرت من داخلك أنك لا تستحقه؟

للأسف، أنت مصاب بمتلازمة المحتال! 

تُعرَّف متلازمة المحتال بأنها حالة من الشعور بالقلق لا يختبر فيها الإنسان شعور النجاح من الداخل رغم أدائه العالي ونجاحه السبَّاق. يقود تفاوت المشاعر عند الإنسان إلى الشعور بأنه محتال ويبدأ في التشكيك في مهاراته وقدراته.

يأتي الخوف من النجاح تاليًا الخوف من الفشل في المخاوف التي تعوق الإنسان عن الإنجاز، وتعتبر متلازمة المحتال أشهر تمثيل للموضوع، إنها محاولة للتنصل من إنجازاتنا، محاولة أخيرة للتخلي عن حقوقنا عبر عزو إنجازاتنا إلى ظروف خارجة عن إرادتنا، وعزو انتصاراتنا إلى التوقيت والحظ السعيد.

«الإنجاز قيد فهو يجبر المرء على تحقيق إنجاز أكبر».

— ألبير كامو

في بعض الأحيان يخشى الشخص الناجح أنه لن يرقى إلى مستوى التوقعات، أو أن الآخرين في لحظة ما سيكتشفون أنه ليس على مستوى التحدي، ودومًا ما تساوره مشاعر الشك الذاتي، لا تُدرَج متلازمة المحتال ضمن الأمراض النفسية، لكن على الرغم من ذلك فهي تصيب ما بين 25% إلى 30% من الناجحين، وتصيب نحو 70% من البالغين ولو مرة واحدة في حياتهم.

كذلك تعتبر المتلازمة السبب الأهم الكامن خلف خوف الإنسان من النجاح، إلا أن أسبابًا أخرى تشاركها الأمر، مثل: الخوف من التغيير الذي يعقب النجاح ويلازمه تغيير في نمط الحياة قد تخسر معه نفسك أو أصدقاءك أو حياتك المعتادة، أو قد يولِّد أمورًا مثل النقد، الأضواء، والتوقعات المتزايدة وكلها بلا شك كفيلة بأن تقلب حياتك الهادئة رأسًا على عقب!

ميتاثيسيوفوبيا

الخوف من التغيير مزروع في جيناتنا، اعتاد أسلافنا أن يقطنوا مأوى يقرب من الغذاء، وشكَّل الابتعاد عن هذا المأوى وتغييره فقدانًا للأمان.

من آلاف السنين وحتى اليوم تشكلت صحتنا العقلية على نفس الوتيرة، فازدادت مع الروتين والالتزام، وصار التغيير يزعزع قوائمها. ينتشر الخوف من التغيير بين الناس، وإلا لما خُلِقت مناطق الراحة "الكومفورت زون". في علم الأعصاب، لا يُفرق الدماغ بين التغيير والفشل، ولا ريب أن الكثير من الناس يتجنبون التغيير لتلافي المشاعر الشديدة المرتبطة به.

نخاف التغيير لأننا لا نملك المعلومات الكافية عن المستقبل الذي نتجه إليه ويلوح أمامنا مجهولًا، يُعرف الخوف من التغيير بمصطلح ميتاثيسيوفوبيا، Metathesiophobia، وهو نوع الخوف الذي يجعل الناس يتجنبون تغيير ظروفهم نتيجة لخوفهم الشديد من المجهول.

نخشى التغيير لأننا لا نستطيع توقع النتيجة، تُفضِّل أدمغتنا نتيجة سلبية يمكن التنبؤ بها عن نتيجة غير مؤكدة، تتسابق عقولنا حسب السيناريوهات المفترضة، فنبني خياراتنا المستقبلية وفق قواعد البيانات المخزَّنة لدينا انطلاقًا من عدة عوامل أهمها التجربة، تجاربنا هي نقطة انطلاق قراراتنا؛ إذ نستخدمها كشبكات أمان نعود عبرها ونبحث عن لحظات تماثل إحدى الخيارات، نحاول من خلال تلك العملية أن نجعل من المجهول مألوفًا.

يُبقي الإنسان نفسه في علاقة سامة أو وظيفة لا يحبها، لأنه يخشى المجهول، ولا يضمن ألا يقضي بقية حياته وحيدًا عاطلًا عن العمل. يمكن أن تخرجنا قاعدة 10 و10 و10 من فخاخ الخوف من المجهول، خذ نفَسًا عميقًا بعد أن تُنفذ القرار الجديد الذي تخشاه واسأل نفسك أين سأكون في غضون: عشر دقائق، عشرة أيام، وعشر سنوات، لا أحد يريد أن يظل مكانه بعد عشر سنوات!

الفصل ليس كتابًا، ولا ينبغي عليك أن تفسد كتابك لأجل أن تطيل فصلًا فيه، علينا أن نقبل أن لكل قصة في الحياة نهاية ويمكن بعدها أن نقلب صفحة جديدة، حينئذٍ فقط يمكننا الاسترخاء.

على الجانب الآخر من الخوف

الخطوة الأولى لمجابهة أي شيء هي التعرُّف عليه، إنك لن تحارب الضباب لذا أول خطوة هي تحديد سبب اللاإنجاز سواء كان الخوف من الفشل، الخوف من النجاح، الخوف من المجهول أو حتى الخوف من الرفض.

من ثم عليك أن تعترف بالأمر أمام نفسك، حتى تقدر أن تغوص في خباياك وتقف على أسباب هذا الخوف. لا بد أن تدرك خوفك وتعترف به، انزع عنك غرورك وكبرياءك وواجه خوفك. إذا كنت تخاف الفشل فتذكر أن الفشل أمر لا مفر منه، إننا لسنا ملائكة حتى نبقى دون أخطاء، أحيانًا نتعلم من الفشل أكثر مما نتعلم من النجاح، وأحيانًا يُعلِّمنا الفشل تقدير النجاح أكثر، وفي النهاية هؤلاء من لا يهابون الفشل يخاطرون بجنون ويقتنصون العدد الأكبر من الفرص! 

أما إذا كنت تهاب النجاح فربما تحتاج وقتًا أطول؛ إذ سيتعين عليك أن تغير طريقة تفكير عقلك على المدى البعيد، عليك أن تبدأ بتحقيق انتصارات صغيرة حتى تكتسب جرعات من الثقة بالنفس وتزيد المقدار شيئًا فشيئًا. وتذكر دائمًا أن استراتيجيات الخوف التي نشأت عليها قد خاضها دماغك لسنوات فلا تنشد طرقًا مختصرة لإعادة تدريب دماغك، وأعطه الوقت الكافي.

إذا كنت تهاب التغيير فتخيل نفسك بعد عشر سنوات، إذا كنت تراها في نفس مكانك الحالي فلا بأس أن تظل ساكنًا! لكن أحدًا منا لا يريد تخيل هذا الأمر بالطبع. ما لا يقتلك يجعلك أقوى، وحتى مكانتك الحالية المألوفة لديك كانت يومًا ما هي الأخرى منطقة مجهولة.

إذا كان ما يمنعك من الإنجاز هو الخوف من الرفض، فأنت بحاجة إلى إعادة تشكيل العلاقات مع ذاتك، عليك إيجاد الحب والراحة مع نفسك وتقبُّلها، من ثم يمكنك تغيير طريقة تفكيرك في الرفض، وبالتالي ما تشعر به حياله.

ركز مع ذاتك الداخلية وستكتشف أن هذا الوحش الذي يسكن داخلك ما هو سوى طفل صغير ينبِّهك لخطر داهم، إذا تجاهلت صراخه لأول مرة فسيرفع من صوته، وإذا تجاهلته مجددًا فسيغدو صاخبًا وسيفعل كل ما يلزم ليجبرك على الاستماع إليه.

إن سبب امتلاك الخوف في حياتك حاليًّا لصوت مهيمن هو أنك سمحت له أن يرفع صوته منذ البداية، هذا الوحش بداخلك يحاول حمايتك وحين تحاول كبته فأنت في الواقع تخنق قطعة من نفسك. مع كل تلك السنوات تعلمنا طريقة خاطئة للتعامل مع هذا الوحش، تجاهلناه، تجاوزناه، قمعناه وأنكرناه، بينما لم ندرك أبدًا أن كل تلك الطرق لن تجعله يختفي لأنه جزء لا يتجزأ منا ولا يمكن التخلص منه.

لذا فالطريقة الذكية والوحيدة للتعامل مع الخوف هي عبر نزع سلطته، نعترف بوجوده، نرحب به، ونجعل من الخوف صديقنا، ما نقاومه يستمر، لذا فلن نقاوم الخوف لأن لديه ما يقدمه لنا، لديه ما يحذرنا منه، حان الوقت للتوقف عن الركض ومقابلة صديقك الذي لطالما تُرك داخلك في الظلام، ربما حين تُسلِّط النور على هذا الوحش تكتشف أنه أقل رعبًا بكثير مما توقعت، ربما حين تراه بعين أخرى تكتشف أن الوحش الذي بداخلك يمكن أن يكون لطيفًا!

# مجتمع # علم نفس

كلاب مصر: قصة الهروب الكبير من مشرحة الطب البيطري إلى قمة هرم خوفو
الجمهور أم اللاعبون: من يحب كرة القدم أكثر؟
«ورقي » أم «إلكتروني»؟: الصراع الذي مزق نقابة الصحفيين

مجتمع